<table cellSpacing=0 cellPadding=0 align=left border=0><tr><td></TD></TR> <tr><td class=imageCaption width=211>وقوع الأزمة لا ينفي الاستفادة من دروسها</TD></TR></TABLE>
قد نتفق أو نختلف في حجم الصدمة التي أحدثتها أزمة الرهن العقاري على الاقتصاد الأمريكي والأوربي، وكذلك على الدول المرتبطة بهما اقتصاديا، ولكن ما لا يختلف عليه الجميع أن هذه الصدمة خلفت مجموعة من الدروس المستفادة يمكن الخروج بها من أسباب وقوعها، وكذلك كيفية التعامل معها. أما عن أسباب الوقوع فقد كشفت عن فقاعتين يحكمان الاقتصاد العالمي ما لبثا أن انفجرا ليحدثا الأزمة الأولى: فقاعة الربا، والثانية: فقاعة بيع الديون، وكل منهما يرتبط بالآخر. فبوادر الأزمة ارتبطت بصورة أساسية بالارتفاع المتوالي لسعر الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ عام 2004، وهو ما شكل زيادة في أعباء القروض العقارية من حيث خدمتها وسداد أقساطها، خاصة في ظل التغاضي عن السجل الائتماني للعملاء وقدرتهم على السداد حتى بلغت تلك القروض نحو 1.3 تريليون دولار في مارس 2007م، وتفاقمت تلك الأزمة مع حلول النصف الثاني من عام إلى 2007، حيث توقف عدد كبير من المقترضين عن سداد الأقساط المالية المستحقة عليهم، وكان من نتيجة ذلك تكبد أكبر مؤسستين للرهن العقاري في أمريكا وهما "فاني ماي" و" فريدي ماك " خسائر بالغة حيث تتعاملان بمبلغ ستة تريليونات دولار، وهو مبلغ يعادل ستة أمثال حجم اقتصاديات الدول العربية مجتمعة. أما فقاعة بيع الديون فجاءت من خلال "توريق" أو "تسنيد" تلك الديون العقارية وذلك بتجميع الديون العقارية الأمريكية وتحويلها إلى سندات وتسويقها من خلال الأسواق المالية العالمية. وقد نتج عن عمليات التوريق زيادة في معدلات عدم الوفاء بالديون لرداءة العديد من تلك الديون، مما أدى إلى انخفاض قيمة هذه السندات المدعمة بالأصول العقارية في السوق الأمريكية بأكثر من 70 في المائة. العلاج الحكومي وجاء تعامل الحكومة الأمريكية مع الأزمة ليكشف عن درس آخر وهو أهمية التدخل الحكومي، فرغم أن النظام الاقتصادي العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قائم على الاقتصاد الحر أو نظام اقتصاد السوق ورفعه شعار (الدولة تحكم ولا تملك)، فقد ظهر بوضوح دور التدخل الحكومي للمساهمة في علاج أزمة الرهن العقاري والحيلولة دون انهيار النظام الاقتصاد العالمي، وأكد وزير الخزانة الأمريكية "هنري بولسون" ذلك بقوله إن التدخل غير المسبوق والشامل للحكومة يعتبر الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد الأمريكي بشكل أكبر، وقال رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي "بين بيرنانك" تعليقا على التدخلات الحكومية إنها ضرورية لضمان ألا تؤدي الديون المعدومة إلى انهيار النظام المالي والاقتصاد. حتى أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) نفسه صرح في خطاب له بالبيت الأبيض بأن الوقت الراهن حاسم لمواجهة الأزمة المالية، مشيرا إلى غياب الثقة والمخاطر المحدقة بالاستهلاك والنشاط الاقتصادي، وطالب بالتحرك الفوري للحفاظ على صحة اقتصاد بلاده من مخاطر كبيرة. وبناء على ذلك اقترحت وزارة الخزانة الأمريكية برنامجا حكوميا تتراوح تكاليفه بين خمسمائة إلى ثمانمائة مليار دولار، لشطب الأصول الفاسدة المرتبطة بالقروض العقارية من سجلات الشركات المالية الأمريكية. وفي خطوة عملية أعلنت الخزانة الأمريكية أنها ستدعم بخمسين مليار دولار صناديق الاستثمار التي تتعامل في سوق النقد وانخفضت قيمة أسهمها عن دولار واحد، في محاولة لاحتواء الاضطرابات في أسواق المال. كما كثف البنك المركزي الأمريكي تنسيقه مع كل من: البنك المركزي الأوروبي، والبنك الوطني السويسري، وبنك إنجلترا، وبنك اليابان، وبنك كندا، لدعم القطاع المالي العالمي، حيث قاموا جميعا بضخ مليارات الدولارات في أسواقهم المالية. الحنين للماضي وكل هذه الخطوات تبرز أن التاريخ يعيد نفسه فقد نشأت المدرسة الكلاسيكية التي يسير على نهجها نظام اقتصاد السوق أو النظام الاقتصادي الحر باعتباره وريثا أو امتدادا للنظام الرأسمالي على يد عالم الاقتصاد الاسكتلندي "آدم سميث" في القرن التاسع عشر الذي نظر للنظام الرأسمالي في كتابه (ثروة الأمم)، وأكد الحرية الاقتصادية (دعه يعمل دعه يمر)، وعارض تدخل الدولة في الاقتصاد عملا بفكرة اليد الخفية التي رأى من خلالها أن البحث عن المصلحة الخاصة يحقق المصلحة العامة تلقائيا. ومع ظهور أزمة الكساد العالمي العظيم (1929-1933) كشفت هذه الأزمة عن عجز المدرسة الكلاسيكية، وفي الوقت نفسه برز على السطح الفكر الكينزي من خلال كتاب جون ماينارد كينز (1936) الذي دحض فيه النظرية الكلاسيكية وأثبت خرافة اليد الخفية، ودحض الادعاء بأن الأسواق تتمتع بالقدرة على إصلاح عدم توازنها، ورأى أن أحوال الكساد والتضخم تحتاج إلى تدخل مباشر من قبل الدولة لإصلاحها، وكانت الدعوة لتدخل الدولة قوية خاصة بعد تعطل قوى الإنتاج وخروج ما يزيد على ربع القوى العاملة الصناعية إلى البطالة. وبالفعل استخدمت الدول الغربية سياسة الإدارة الاقتصادية -في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية- لإعادة البناء الاقتصادي وفي التخطيط والنمو المستقبلي. وتمكنت النظرية الكينزية من تحقيق الازدهار الاقتصادي في الخمسينيات والستينيات حيث أقدمت الدول الغربية على تأميم بعض الصناعات والأنشطة المهمة بالنسبة للاقتصاد ككل مثل الحديد والصلب والكهرباء والسكك الحديدية، كما أصبحت المشروعات الخاصة خاضعة لتوجيه الدولة بشكل عام، وانتصرت في تلك الفترة المدرسة الكينزية على غيرها من المدارس الاقتصادية. ولكن في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات خاصة مع انهيار الشيوعية وبزوغ القطب الواحد حدث ارتداد فكري بالنسبة لدور الدولة حيث اتجهت نحو خصخصة المشروعات العامة وإعطاء المزيد من الحرية في التصرفات مرة أخرى للمشروعات الخاصة وتقلص وسائل الرقابة عليها. ومع أزمة الرهن العقاري عادت الدولة مرة أخرى للمدرسة "الكينزية"، وعززت من دورها ولجأت إلى شراء مؤسسات خاصة منعا لانهيارها واستخدمت السياسة النقدية والمالية للحيلولة دون انهيار النظام الاقتصادي العالمي. الاقتصاد الإسلامي ويبدو من خلال ما سبق أن فكرة الطريق الثالث التي ظهرت لأول مرة عام 1936 على يد الكاتب السويدي "arquis Child " هي الحل، فهي تجمع بين مفهومي الرأسمالية الغربية والاشتراكية الماركسية، ولا تتبنّى السقف الأعلى أو الحد الأقصى لكل نظرية. ولعل الطريق الأول الذي طرحه النظام الاقتصادي الإسلامي قبل ظهر منظرو النظامين الرأسمالي والاشتراكي هو خير ترجمة لفكرة "arquis Child"، فهو ينظر للفرد والجماعة معا، ولا ينتظر وقوع الأزمات حتى تتدخل الحكومات بل يقي أصلا من وقوعها، كما أنه يحترم الملكية الفردية ولا يكبتها كما في النظام الاشتراكي، ويؤهلها لتنمو في حضن القيم الإيمانية فلا غش ولا تدليس ولا احتكار ولا ربا ولا مقامرة ولا غبن ولا استغلال كما هو عليه نظام اقتصاد السوق،وفي الوقت نفسه لا يهمل دور الدولة كشريك للتنمية مع القطاع الخاص من خلال اضطلاعها بمشروعات المنافع العامة التي تقوم عليها حياة الناس من خلال أفضل استخدام للموارد المائية والرعوية ومصادر الطاقة والثروة المعدنية. والحقيقة أن العقل والمنطق يقول إن هذا النظام هو الحل، فالواقع يؤكد أنه لا يوجد شيء اسمه حرية مطلقة، فالكون ليس آلة خلقها الله ثم تركها تدور بدون تدخل كما ترى المدرسة الغربية، وبالتالي فإن تدخل الدولة ضروري، ولكن يجب التفرقة بين تدخل إيجابي لا تحكمه أهواء أو اعتبارات سياسية بقصد تسييس الاقتصاد وخضوعه للاعتبارات الشخصية لا القواعد العلمية، وبين التدخل السلبي الذي تعكسه قرارات العديد من الأنظمة العربية. |